كتب
الرائع و الرائع جداً حسب رأيي الشخصي أ. أسعد الطيب العباسي، الذي عشقت
كتاباته حتى الثمالة،، مقال شدني و أمتعني بشدة فآثرت أن أنقله إليكم محبة
لكم ورغبة في الإستمتاع به كما أستمتعت أنا.
ماء المآقي في قوافي العاشقين
أ. أسعد الطيب العباسي
*
عُنيت العربية بالكلام المقفى منذ أقدم عصورها وهي ميزة إتخذتها لنفسها
كأداة تفوقت بها على غيرها من اللغات السامية التي لم نعرف لغة منها كان
فيها للقافية ما كان لها في العربية وليس أدل على هذا مما حفلت به لغة
التنزيل من أفانين السجع والمزاوجة أو سفر العرب الذي حفل بأمتع الفنون
القولية الموشاة وبرنين الوزن ونغم القافية، وهذا التفوق جعل في نصوصها
مسالك تلج بسهولة، ويسر وإمتاع الى أتون الذاكرة ومناحي الوجدان خاصة فيما
يتعلق بضروب القافية الدامعة ووصف العاطفة الملتهبة وهو شأن يبرز بجلاء في
شعر العاشقين فعندما تأخذهم تباريح الهوى كل مأخذ ويصيرون نهباً لآلام
الفراق تتناوح عنادل شعرهم بألحان الفراق الأليم وتسبح جفونهم بماء الدمع
السخين ومن الصور الرائقة التي تلح علينا بإيرادها هنا في معنى الفراق
وسطوته الأليمة قافية ذلك العاشق القديم التي جاءت مُختالة في حُللٍ من
حُسن الصوغ وجمال الصنع وقوة التأثير يقول:
ولما تنادت للرحيل جمالنا
وجدَّ بنا سيرٌ وفاضت مدامع
تبدت لنا مذعورة من خبائها وناظهرها باللؤلؤ الرطب دامع
أشارت بأطراف البنان وودعت وأومت بعينها متى أنت راجع
فقلت لها الله ما من مسافر
يدري ما به اللهُ صانع
فشالت نقاب الحسن من فوق
وجهها فسالت من الطرف الكحيل مدامع
وقالت إلهي كن عليه خليفة
ويارب ما خابت لديك الودائع
المتأمل
لهذه الصورة يدرك أن ما فيها من الصمت هو شلال من الإيحاء إذ حوت حواراً
صامتاً جاء كمناجاة بين روحين في مواطن الوجد والجمال وعلى صمتها ترن
موسيقاها الحزينة وإيقاعها الملتاع وهو معنى وقع عليه أيضاً الشاعر عمر بن
ابي ربيعة في بيتيه القائلين:
ومما شجاني أنها حين ودعت
تولت ودمع العين في الطرف خائرُ
فلما أعادت من بعيد بنظرة إلىَّ التفاتا أسلمته المحاجرُ
هذا
التصوير الرائع الذي أشجانا به عمر بن ابي ربيعة هو من الفنون التي أجاد
العزف على قيثارها والضرب على أوتارها ولا غرو في ذلك إذ أنه أحد الأفذاذ
الذين صعدوا بفنهم الأدبي إلى ذُرى المجد وتسلقوا بعبقريتهم الشعرية على
معارج الشهرة والعظمة والخلود.
وللفراق لوعة أخرى أكثر غوراً عند أهل
العشق والصبابة إن كان الفراق أبدياً فدمعة العشق الحرى التي ذرفها الشاعر
العباسي (ديك الجن الحمصي) الذي عشق جاريته (ورد) حد الوله فخانته فقتلها
وظلت تلك الدمعة تنساب من على عينيه وتنسال على محاجره مدى حياته ضارباً
صفحاً عن أسباب الصبر ووسائل السلوان في محاولة في واقعها لن تجدي شروي
نقير أو مثقال قطمير فنسج موسيقاه الحزينة عندما حكى قصة مأساته من فتائل
الأسى والأسف على شاطيء اللوعة البالغة بقافية دامية تتقطع معها نياط
القلوب وترج الوجدان رجاً إنه عاشق أفناه برج النوى وأضناه الفراق الأبدي..
يقول:
يا طلعة طلع الحمام عليها
وجنى لها ثمر الردى بيدها
رويتُ من دمها الثرى ولطالما
روى الهوى شفتيَّ من شفتيها
حكمت سيفي في مجال خناقها
ومدامعي تجري على خديها
فوحق نعليها وما وطيَّ الحصى
شيء أعز علىَّ من نعليها
ما كان قتليها لأني لم أكن
أخشى إذا سقط الغبارُ عليها
لكن صننتُ على العيون بحسنها
وأنفت من نظر الحسود إليها
ليس
ألم الفراق وحده عند العاشقين ما يجعل أعينهم تجود فعصف الذكرى يردهم إلى
المورد نفسه ويسلمهم إلى دموع سابلة وقواف حزينة ولنرى ذلك في قول عاشق آخر
يقول:
وبدا له من بعد ما إندمل الهوى برق تألق موهناً لمعانه
يبدو كحاشية الرداء ودونه
صعب الذرا متمنع أركانه
وبدا لينظر كيف لاح فلم يطق نظراً إليه وصده أشجانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه والماء ماسحت به أجفانه
وهذا
للناظر إنعكاسة لما يعتلج بين الجوانح أو ما يشب بين الضلوع من أوار شمله
اسلوب يميس في برود الإبداع والجمال وإن إمتزجت خيوطه بأصباغ حالكة
السواد.. فالعشق وماء المآقي في قوافي العشاق اهون المصارع التي تكمن وراء
الشوف والذكرى وهذا ما حمل شاعرنا شمس الدين محمد التلمساني الملقب بالشاعر
الظريف الى مخاطبة رفيقه المحب الباكي والعاشق الكتوم بقوله:
لاتُخف ما فعلت بك الأشواق واشرح هواك فكلنا عُشاقُ
قد كان يخفي الحب لولا دمعك الجاري ولولا قلبك الخفاقُ
لا تجزعن فلست أول مغرم
فتكت به الوجنات والأحداق
فسوف يعينك من شكوت له الهوى
في حمله فالعاشقون رفاق
واصبر على هجر الحبيب فربما
عاد الوصال وللهوى أخلاق
إن
بث الشكاة للرفقة الأنيسة تخفف من ربقة الهوى ووطأة ذكراه وإلحاح أشواقه،
وقد جنح كثير من شعراء العشق عندما تمازجهم هذه الآلام وتعاقرهم المنى إلى
مخاطبة الرفيق مهما بدا وكيف كان كما فعل الطغراتي الحسين بن محمد
الأصبهاني الذي ارتفع بنا إلى آفاق من الشجو الجميل وهو يخاطب حمامة نائحة
فقال:
أيكية صدحت شجواً على فننٍ فأشعلت ما خبا من نار أشجاني
ناحت وما فقدت إنساً ولا فجعت فذكرتني أو طاري وأوطاني
طليقة من إسار الهم ناعمة أضحت تجدد وجد الموثق العاني
تشبهت بي في وجد وفي طرب هيهات ما نحن في الحالين سيان
ما في حشاها ولا في جفنها أثر من نار قلبي ولا من ماء أجفاني
ياربة البانة الغناء تحضنها
خضراء تلتف أغصاناً بأغصان
إن كان نوحك اسعاداً لمغترب ناء عن الأهل ممنى بمهجران
فقارضيني إذا إعتادني طرب
وجداً بوجد وسلوانا بسلوان
ما أنت مني ولا يعنيك ما أخذت مني الليالي ولا تدرين ما شأني
كلي للسُحب اسعادي فإن لها دمعاً كدمعي وإرناناً كإرناني
وعندما
يشتف الحب مشاشة العاشقين وتورق شجرة الوعد عن ثمر لا يسلم من جوانح الزمن
تتفجر أعينهم بالدمع وتهطل من المحاجر تهانها كما تبرز لنا صورة بن زريق
البغدادي الشاعر العباسي المعروف.. يقول:
استودع الله في بغداد لي قمراً
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه
وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى
وأدمعي مستهلات وأدمعه
فأماني
الوصال المتعثرة تدر الدمع أيضاً عند الشعراء العاشقين ومنهم الشاعر
النابه والناظم الساحر والناغم المؤثر بشار بن برد الذي اكتوى بحب عبيره
التي قال عنها:
نظرت فأقصدت الفؤاد بلحظها
ثم إنثنت عنه فظل يهيم
ويلاة إن نظرت وإن هي أعرضت
وقع السهام ونزعهن أليم
وفي وصله المتعثر قال:
أبيت وعيني بالدموع رهينة
وأصبح حباً والفؤاد كئيب
ألا ليت شعري هل أزورك مرة
وليس علينا يا عبير رقيب
ومن
صور الشعر الحديثة في معنى العشق المعبر عنه بالقوافي الدامعة ما قال به
في انشودة مطرة الشاعر العراقي المحدث بدر شاكر السياب في معنى لا يخلو من
الطرافة يقول:
أتعلمين أي حُزن يبعث المطر
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع
بلا إنتهاء كالدم المراق كالجياع
كالحب كالأطفال كالموتى هو المطر
مطر مطر مطر
ومقلتك تطل مع المطر
مطر مطر مطر
وكم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع ثم إعتللنا خوف أن نلام بالمطر
وفي زهر الكلمات قصيدة شاعرنا الذي يحلو لي أن أقول إنه سوداني محمد مفتاح الفيتوري يقول في قافيته عن دموعه:
لم أجد غير نافذة في سمائك مبتلة بدموعي
فألصقت عيني فوق الزجاج لعلي أراك
لعلك تبصرني وأنا هائم مثل سرب من الطير
منهمك في مداك...
فالقوافي الباكية تجدد رؤاها على الألسنة العاشقة القديمة والجديدة لأن الهوى في كل قلب نابض قدر الإنسان من كان الأزل.